سورة الفتح - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} اختلف في تعيين هذا الفتح، فقال الأكثر: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمى فتحاً. قال الفراء: والفتح قد يكون صلحاً، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله. قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرّضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال قوم: إنه فتح مكة.
وقال آخرون: إنه فتح خيبر. والأوّل أرجح، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية. وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوّة، والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، وقيل: المراد بالفتح في هذه الآية: الحكم والقضاء. كما في قوله: {افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] فكأنه قال: إنا قضينا لك قضاءً مبيناً، أي: ظاهراً واضحاً مكشوفاً. {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} اللام متعلقة ب {فتحنا}، وهي لام العلة. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس يعني: المبرد، عن اللام في قوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} فقال: هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً؛ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة.
وقال صاحب الكشاف: إن اللام لم تكن علة للمغفرة؛ ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك؛ لنجمع لك بين عزّ الدارين، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح، فكيف يصح أن تكون معللة.
وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} التعريف بالمغفرة، تقديره: إنا فتحنا لك؛ لتعرف أنك مغفور لك معصوم.
وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك؛ لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة.
وقال أبو حاتم: هي لام القسم وهو خطأ، فإن لام القسم لا تكسر، ولا ينصب بها.
واختلف في معنى قوله: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها.
قاله مجاهد، وسفيان الثوري، وابن جرير، والواحدي، وغيرهم.
وقال عطاء: ما تقدّم من ذنبك، يعني: ذنب أبويك آدم وحوّاء، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن. وقيل: ما تقدّم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله. وقيل: ما تقدّم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل: لو كان ذنب قديم، أو حديث؛ لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأوّل أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة: ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره، وإن لم يكن ذنباً في حق غيره. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإظهار دينك على الدين كله، وقيل: بالجنة، وقيل: بالنبوّة والحكمة، وقيل: بفتح مكة، والطائف، وخيبر، والأولى أن يكون المعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة، والهداية إلى صراط مستقيم، وهو الإسلام. ومعنى {يهديك}: يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذلّ: {هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين} أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء، فصدّقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم، وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم.
وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} يعني: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوط بعضهم ببعض {وَكَانَ الله عَلِيماً} كثير العلم بليغه {حَكِيماً} في أفعاله وأقواله {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه اللام متعلقة بمحذوف يدلّ عليه ما قبله تقديره: يبتلي بتلك الجنود من يشاء، فيقبل الخير من أهله، والشرّ ممن قضى له به؛ ليدخل ويعذب. وقيل: متعلقة بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} كأنه قال: إنا فتحنا لك ما فتحنا؛ ليدخل ويعذب، وقيل: متعلقة ب {ينصرك} أي: نصرك الله بالمؤمنين؛ ليدخل ويعذب، وقيل: متعلقة ب {يزدادوا} أي: يزدادوا، ليدخل ويعذب، والأوّل أولى {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي: يسترها، ولا يظهرها ولا يعذبهم بها، وقدّم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} أي: وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم عند الله، وفي حكمه فوزاً عظيماً، أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غمّ، وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضرّ، وقوله: {عَندَ الله} متعلق بمحذوف على أنه حال من {فوزاً}؛ لأنه صفة في الأصل، فلما قدم صار حالاً، أي: كائناً عند الله، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين، وجزاء المنافقين والمشركين ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: {وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} وهو معطوف على يدخل، أي: يعذبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم.
وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشدّ منهم عذاباً، وأحقّ منهم بما وعدهم الله به، ثم وصف الفريقين، فقال: {الظانين بالله ظَنَّ السوء} وهو ظنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يغلب، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام.
ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي: ما يظنونه، ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم، والمعنى: أن العذاب، والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم. قال الخليل، وسيبويه: السوء هنا: الفساد. قرأ الجمهور {السوء} بفتح السين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضمها {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}. لما بيّن سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بيّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة، وعذاب جهنم {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض} من الملائكة، والإنس، والجنّ، والشياطين {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} كرّر هذه الآية؛ لقصد التأكيد، وقيل: المراد بالجنود هنا: جنود العذاب، كما يفيده التعبير بالعزة هنا، مكان العلم هنالك.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}، فقال رجل: إي رسول الله، أو فتح هو؟ قال: «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح»، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه، فسرّي عنه، وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنه أنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}.
وأخرج البخاريّ وغيره عن أنس في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: الحديبية.
وأخرج البخاريّ، وغيره عن البراء قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: «فتح مكة».
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتورم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»، وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين} قال: السكينة: هي الرحمة، وفي قوله: {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} قال: إن الله بعث نبيه بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فلما صدّق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ، فلما صدّقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فقال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3]. فأوثق إيمان أهل السماء، وأهل الأرض، وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود: {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} قال: تصديقاً مع تصديقهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس قال: لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية. قال: «لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسول الله، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حتى بلغ: {فَوْزاً عَظِيماً}.


قوله: {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} أي: على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم {وَمُبَشّراً} بالجنة للمطيعين {وَنَذِيرًا} لأهل المعصية {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قرأ الجمهور {لتؤمنوا} بالفوقية. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتحتية، فعلى القراءة الأولى: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته، وعلى القراءة الثانية المراد: المبشرين والمنذرين، وانتصاب {شاهداً ومبشراً ونذيراً} على الحال المقدرة {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ} الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة الأفعال كالخلاف في: {لّتُؤْمِنُواْ} كما سلف، ومعنى تعزروه: تعظموه وتفخموه؛ قاله الحسن، والكلبي، والتعزير: التعظيم والتوقير.
وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه.
وقال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، ومعنى توقروه: تعظموه.
وقال السديّ: تسوّدوه، قيل: والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم وهنا وقف تام، ثم يبتدئ: وتسبحوه أي: تسبحوا الله عزّ وجل: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: غدوة وعشية، وقيل: الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عزّ وجلّ، فيكون معنى تعزروه وتوقروه: تثبتون له التوحيد، وتنفون عنه الشركاء، وقيل: تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله. وفي التسبيح وجهان، أحدهما: التنزيه له سبحانه من كل قبيح، والثاني: الصلاة. {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يعني: بيعة الرضوان بالحديبية، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم هي بيعة له كما قال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وجملة: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل، في محل نصب على الحال، والمعنى: أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت.
وقال الكلبي: المعنى: إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء.
وقال ابن كيسان: قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي: فمن نقض ما عقد من البيعة، فإنما ينقض على نفسه؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} أي: ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور {عليه} بكسر الهاء وقرأ حفص، والزهري بضمها {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنة. قرأ الجمهور {فسيؤتيه} بالتحتية، وقرأ نافع، وقرأ كثير، وابن عامر بالنون، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية. قال مجاهد، وغيره يعني: أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، والدئل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة.
وقيل: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه، والمخلف: المتروك {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} أي: منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال، والنساء، والذراري، وليس لنا من يقوم بهم، ويخلفنا عليهم {فاستغفر لَنَا} ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم، فضحهم الله سبحانه بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} وهذا هو صنيع المنافقين، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم، ويجوز أن تكون بدلاً من الجملة الأولى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم، فقال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً} أي: فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشرّ، ثم بيّن ذلك، فقال: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} أي: إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل. قرأ الجمهور {ضرًّا} بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضرًّا. وقرأ حمزة، والكسائي بضمها وهو اسم ما يضرّ، وقيل: هما لغتان {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي: نصراً وغنيمة، وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع عنه الضرّ، ويجلب لهم النفع. ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وقال: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: إن تخلفكم ليس لما زعمتم، بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك، بل للشك والنفاق، وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله، ولهذا قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وهذه الجملة مفسرة لقوله: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} لما فيها من الإبهام، أي: بل ظننتم أن العدوّ يستأصل المؤمنين بالمرة، فلا يرجع منهم أحد إلى أهله، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة {وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} أي: وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه. قرأ الجمهور: {وزين} مبنياً للمفعول، وقرئ مبنياً للفاعل {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} أن الله سبحانه لا ينصر رسوله، وهذا الظن إما هو الظنّ الأوّل، والتكرير للتأكيد والتوبيخ، والمراد به: ما هو أعمّ من الأوّل، فيدخل الظنّ الأوّل تحته دخولاً أوّلياً {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى، قال الزجاج: هالكين عند الله، وكذا قال مجاهد. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال أبو عبيد {قَوْماً بُوراً}: هلكى، وهو جمع بائر، مثل حائل وحول، وقد بار فلان، أي: هلك، وأباره الله: أهلكه.
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله، أي: ومن لم يؤمن بهما، كما صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعدّه الله لهم من عذاب السعير {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} يتصرّف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء، ولهذا قال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: كثير المغفرة والرحمة، بليغها يخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده. {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} المخلفون هؤلاء المذكورون سابقاً، والظرف متعلق بقوله: {سَيَقُولُ} والمعنى: سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون {إلى مَغَانِمَ} يعني: مغانم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا} لتحوزوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي: اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر. وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم، فقال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} أي: يغيروا كلام الله، والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدّلوه: هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر.
وقال مقاتل: يعني: أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم.
وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} [التوبة: 83] واعترض هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة، والأوّل أولى، وبه قال مجاهد، وقتادة، ورجحه ابن جرير، وغيره. قرأ الجمهور {كلام الله} وقرأ حمزة، والكسائي {كلم الله} قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والكلم لا يكون أقلّ من ثلاث كلمات؛ لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم من الخروج معه، فقال: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} هذا النفي هو في معنى النهي، والمعنى: لا تتبعونا {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي: من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب {فَسَيَقُولُونَ} يعني: المنافقين عند سماع هذا القول، وهو قوله: {لَّن تَتَّبِعُونَا} بل {تَحْسُدُونَنَا} أي: بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلاّ الحسد؛ لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك بقول الله كما تزعمون، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يعلمون إلاّ علماً قليلاً، وهو علمهم بأمر الدنيا، وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلاّ فقهاً قليلاً، وهو ما يصنعونه نفاقاً بظواهرهم دون بواطنهم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَتُعَزّرُوهُ} يعني: الإجلال {وَتُوَقّرُوهُ} يعني: التعظيم، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه في قوله: {وَتُعَزّرُوهُ} قال: تضربوا بين يديه بالسيف.
وأخرج ابن عديّ، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَتُعَزّرُوهُ} قال لأصحابه: «ما ذاك»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «لتنصروه».
وأخرج أحمد، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجنة، فمن وفى وفى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
وفي الصحيحين من حديث جابر: أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة. وفيهما عنه: أنهم كانوا أربع عشرة مائة. وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، فقال له: إن جابراً قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال رحمه الله: وهِم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.


قوله: {قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} هم المذكورون سابقاً {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخراساني: هم فارس.
وقال كعب، والحسن: هم الروم.
وروي عن الحسن أيضاً أنه قال: هم فارس، والروم.
وقال سعيد بن جبير: هم هوازن، وثقيف.
وقال عكرمة: هوازن.
وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين.
وقال الزهري، ومقاتل: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية. قال الزجاج: التقدير: أو هم يسلمون، وفي قراءة أبيّ {أو يسلموا} أي: حتى يسلموا {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} أي: تعرضوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} وذلك عام الحديبية {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة؛ لتضاعف جرمكم. {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي: ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو؛ لعدم استطاعتهم. قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية، والحرج: الإثم {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمراه به ونهياه عنه {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر} قرأ الجمهور {يدخله} بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون {وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} أي: ومن يعرض عن الطاعة يعذبه الله عذاباً شديد الألم. ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم، وشهدوا بيعة الرضوان، فقال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} أي: رضي الله عنهم وقت تلك البيعة، وهي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، والعامل في {تَحْتِ} إما يبايعونك، أو محذوف على أنه حال من المفعول، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية وقيل: سدرة، وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشاً، ولا يفرّوا.
وروي أنه بايعهم على الموت، وقد تقدّم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريباً، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير. {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} معطوف على يبايعونك، قال الفراء: أي: علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء.
وقال قتادة، وابن جريج: من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا.
وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} معطوف على رضي، والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس، كما تقدّم، وقيل: الصبر {وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية، قاله قتادة، وابن أبي ليلى، وغيرهما، وقيل: فتح مكة، والأوّل أولى.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثابكم مغانم كثيرة، أو وآتاكم، وهي غنائم خيبر، والالتفات لتشريفهم بالخطاب {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي: غالباً مصدراً أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة. {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي: غنائم خيبر، قاله مجاهد وغيره، وقيل: صلح الحديبية {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي: وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح، وقيل: كفّ أيدي أهل خيبر، وأنصارهم عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب.
وقال قتادة: كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وخيبر، ورجح هذا ابن جرير، قال: لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله: {وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} وقيل: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ الناس عَنْكُمْ يعني: عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} اللام يجوز أن تتعلق بفعل محذوف يقدّر بعده، أي: فعل ما فعل من التعجيل والكفّ؛ لتكون آيةً، أو على علة محذوفة تقديرها: وعد فعجل وكفّ؛ لتنتفعوا بذلك؛ ولتكون آية. وقيل: إن الواو مزيدة، واللام لتعليل ما قبله، أي: وكفّ لتكون؛ والمعنى: ذلك الكفّ آية يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يعدكم به {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} أي: يزيدكم بتلك الآية هدى، أو يثبتكم على الهداية إلى طريق الحقّ {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} معطوف على هذه، أي: فعجل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها، وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم ونحوهما، كذا قال الحسن، ومقاتل، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك، وابن زيد، وابن أبي إسحاق: هي خيبر وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها، وقال قتادة: فتح مكة، وقال عكرمة: حنين، والأوّل أولى {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} صفة ثانية لأخرى. قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها، والمعنى: أنه أعدّها لهم، وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم، وقيل: معنى {أحاط}: علم أنها ستكون لهم {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} لا يعجزه شيء، ولا تختصّ قدرته ببعض المقدورات دون بعض. {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} قال قتادة: يعني: كفار قريش بالحديبية، وقيل: أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر، والأوّل أولى.
{ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يواليهم على قتالكم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم عليكم. {سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي: طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه، وانتصاب {سنة} على المصدرية بفعل محذوف، أي: بيّن الله سنة الله، أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدّمة {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي: لن تجد لها تغييراً، بل هي مستمرّة ثابتة {وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: كفّ أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدّون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه عن البيت عام الحديبية، وهي المراد ببطن مكة. وقيل: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبيّ من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وفي الرواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} يقول: فارس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: فارس، والروم.
وأخرج الفريابي، وابن مردويه عنه قال: هوازن، وبني حنيفة.
وأخرج الطبراني، قال السيوطي: بسند حسن عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى، فقال: كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ} الآية. قال: هذا في الجهاد، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئًا لابن عفان يطوف بالبيت، ونحن ها هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها، فأمر بها فقطعت.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل: على أي شيء كنتم تبايعونه يومئذ؟ قال: على الموت.
وأخرج مسلم، وغيره عن جابر قال: بايعناه على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن جابر، عن النبي قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
وأخرج مسلم من حديثه مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: الفتح.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} يعني: أهل مكة أن يستحلوا حرم الله، ويستحلّ بكم وأنتم حرم {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} قال: سنة لمن بعدكم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً في قوله: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} قال: هي خيبر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية: {وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}.
وفي صحيح مسلم، وغيره: أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية.
وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل في سبب نزول الآية: أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح، فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أماناً»؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فنزلت هذه الآية.

1 | 2